الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أسرار البلاغة ***
اعلم أن من المقاصد التي تقع العناية بها أن نُبيّن حالَ الاستعارةِ مع التمثيل، أهي هو على الإطلاق حتى لا فرق بين العبارتين، أم حدُّها غيرُ حدِّه إلا أنها تتضمّنه وتَتَّصل به? فيجب أن نُفرِد جملةً من القول في حالها مَع التَّمثيل، قد مضى في الاستعارة أن حدّها يكون للّفظ اللُّغوي أصلٌ، ثم يُنقَل عن ذلك الأصل على الشرط المتقدم، وهذا الحدّ لا يجيء في الذي تقدَّم في معنى التمثيل، من أنه الأصل في كونه مَثَلاً وتمثيلاً، وهو التشبيه المنتزَع من مجموع أمور، والذي لا يُحصّله لك إلا جملةٌ من الكلام وأكثر، لأنك قد تجد الألفاظَ في الجمل التي يُعقَد منها جاريةً على أصولها وحقائقها في اللغة، وإذا كان الأمر كذلك، بانَ أَنَّ الاستعارة يجب أن تُقيد حكماً زائداً على المراد بالتمثيل، إذ لو كان مرادُنا بالاستعارة هو المراد بالتمثيل، لوَجب أن يصحّ إطلاقُها في كل شيء يقال فيه إنه تمثيلٌ ومَثَل، والقول فيها أنّها دِلالة على حكمٍ يثبت للّفظ، وهو نقلُه عن الأصل اللغويّ وإجراؤه على ما لم يوضع له، ثم إن هذا النقل يكون في الغالب من أجل شَبَهٍ بين ما نُقِلَ إليه وما نُقِلَ عنه، وبيان ذلك ما مضى من أنك تقول: رأيت أسداً، تريد رجلاً شبيهاً به في الشجاعة وظبيةً تريد امرأة شبيهة بالظبية، فالتشبيه ليس هو الاستعارة ولكن الاستعارة كانت من أجل التشبيه، وهو كالغرض فيها، وكالعلّة والسبب في فِعْلها. فإن قلت كيف تكون الاستعارة من أجل التشبيه، والتشبيه يكون ولا استعارةَ؛ وذلك إذا جئتَ بحرفه الظاهر فقلت زيد الأسد. فالجواب أن الأمر كما قلتَ، ولكنّ التشبيه يحصُل بالاستعارة على وجه خاصٍّ وهو المبالغة، فقولي: من أجل التشبيه، أردتُ به من أجل التشبيه على هذا الشرط، وكما أن التشبيه الكائنَ على وجه المبالغة غَرَضٌ فيه وعِلَّة، كذلك الاختصار والإيجاز غَرَضٌ من أغراضها، ألا ترى أنك تُفيد بالاسمِ الواحدِ الموصوفَ والصفةَ والتشبيهَ والمبالغةَ، لأنك تُفيد بقولك رأيت أسداً، أنك رأيت شجاعاً شبيهاً بالأسد، وأنّ شَبَهه به في الشجاعة على أتمّ ما يكون وأبلغِه، حتى إنه لا ينقص عن الأسد فيها، وإذا ثبت ذلك، فكما لا يصحّ أن يقال إن الاستعارة هي الاختصار والإيجاز على الحقيقة، وأنّ حقيقتها وحقيقتهما واحدة، ولكن يقال إن الاختصار والإيجاز يحصلان بها، وهما غرضان فيها، ومن جملة ما دعا إلى فِعْلِها، كذلك حكمُ التشبيه معها، فإذا ثبت أنها ليست التشبيهَ على الحقيقة، كذلك لا تكون التمثيل على الحقيقة، لأن التمثيلَ تشبيهٌ إلا أنه تشبيهٌ خاصٌّ، فكلُّ تمثيلٍ تشبيهٌ، وليس كلُّ تشبيهٍ تمثيلاً. وإذا قد تقرَّرتْ هذه الجملة، فإذا كان الشَبَه بين المستعار منه والمستعار له من المحسوس والغرائزِ والطِّباع وما يجري مجرَاها من الأوصاف المعروفة، كان حقّها أن يقال إنها تتضمّن التشبيه، ولا يقال إنّ فيها تمثيلاً وضَرْبَ مَثَل، وإذا كان الشَّبَه عقلياً جاز إطلاق التمثيل فيها، وأَن يقال ضُرِبَ الاسمُ مَثَلاً لكذا، كقولنا ضُرب النور مثلاً للقرآن، والحياةُ مَثَلاً للعلم. فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يَعْمِد إلى نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلى غيره، ويجوز به مكانَه الأصليَّ إلى مكان آخر، لأجل الأغراض التي ذكرنا من التشبيه والمبالغة والاختصار، والضَّارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصِده، ولكنه يقصِد إلى تقرير الشَّبه بين الشيئين من الوجه الذي مضى، ثم إنْ وقع في أَثناء ما يُعْقَد به المثلُ من الجملة والجملتين والثلاث لفظةٌ منقولةٌ عن أصلها في اللغة، فذاك شيءٌ لم يعتمده من جهة المَثَلُ الذي هو ضاربه، وهكذا كان متعاطٍ لتشبيهٍ صريحٍ، لا يكون نَقْل اللفظ من شأنه ولا مِن مُقتضى غرضه، فإذا قلت: زيد كالأسد، وهذا الخبر كالشمس في الشهرة، وله رأيٌ كالسَّيف في المضاء، لم يكن منك نقلٌ للفظِ عن موضوعه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لوجب أن لا يكون في الدنيا تشبيه إلا وهو مجاز، وهذا مُحالٌ، لأن التشبيه معنًى من المعاني وله حروف وأسماءٌ تدلّ عليه، فإذا صُرّح بذلك ما هو موضوع للدلالة عليه، كان الكلام حقيقةً كالحكم في سائر المعاني فاعرفه. واعلم أن اللفظة المستعارة لا تخلو من أن تكون اسم وفعلاً، فإذا كانت اسماً كان اسمَ جنس وصفةً، فإذا كاناسمَ جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تُنقَل فيها محتملاً مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل، وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه، فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم، وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة، وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال، وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد. وإن كان فعل وصفةً، كان فيهما هذا الاحتمال في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ وأجريتَ الصفة على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون أصلاً في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما، نحو أن تقول: أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير، فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام ذوات النور وأن يكونَا واقعَين على المجاز، بأن تريد بالشيء نوعاً من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً، وإنما توصف به على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخرُ، وهو أنك كأنك تدَّعي معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلتَ: قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة، فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور، ولذلك تجيء فتُضيفه إليك، كما تضاف المعاني التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ إلى الفاعل والموصوف فتقول: نُورُ هذه الحجّة جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي، كما تقول: ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين احتمال شيئينِ ولا أن يُدَّعى معناه للشيء، ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله. وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به، كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور، كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعل ومفعول ومجروراً بحرف الجرّ ومضافاً إليه، فالفاعل كقولك: بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:َ جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تُنقَل فيها محتملاً مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل، وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه، فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم، وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة، وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال، وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد. وإن كان فعل وصفةً، كان فيهما هذا الاحتمال في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ وأجريتَ الصفة على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون أصلاً في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما، نحو أن تقول: أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير، فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام ذوات النور وأن يكونَا واقعَين على المجاز، بأن تريد بالشيء نوعاً من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً، وإنما توصف به على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخرُ، وهو أنك كأنك تدَّعي معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلتَ: قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة، فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور، ولذلك تجيء فتُضيفه إليك، كما تضاف المعاني التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ إلى الفاعل والموصوف فتقول: نُورُ هذه الحجّة جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي، كما تقول: ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين احتمال شيئينِ ولا أن يُدَّعى معناه للشيء، ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله. وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به، كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور، كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعل ومفعول ومجروراً بحرف الجرّ ومضافاً إليه، فالفاعل كقولك: بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله: وَفِي الجِيرة الغَادِين من بَطن وَجْرةٍ *** غزالٌ كَحِيلُ المُقلـتَـيْن رَبِـيبُ والمفعولُ كما ذكرت من قولك: رأيت أسداً، والمجرور نحو قولك لا عَارَ إن فَرّ من أَسدٍ يَزْأَر، والمضاف إليه كقوله: يَا ابن الكواكب من أَئِمّة هاشمٍ *** والرُجَّحِ الأَحسابِ والأَحْـلامِ وإذا جاوزتَ هذه الأحوال، كان اسم المشبَّه مذكوراً وكان مبتدأ، واسمُ المشبَّه به واقعاً في موضع الخبر، كقولك: زيد أسد، وعلى هذا الحد، وهل يستحقّ الاسم في هذه الحالة أن يوصف بالاستعارة أم لا:? فيه شبهة وكلامٌ سيأتيك إن شاء اللَّه تعالى. وإذ قد عرفت هذه الجملةَ، فينبغي أن تعلم أنه ليس كل شيء يجيء مشبَّهاً به بكافٍ وبإضافة مِثْلَ إليه، يجوز أن تسلّط عليه الاستعارة، وتُنفِذ حكمَها فيه، حتى تنقله عن صاحبه وتدّعيه للمشبَّه على حدّْ قولك: أبديتُ نوراً تريد علماً، وسللتُ سيفاً صارماً، تريد رأياً نافذاً وإنما يجوز ذلك إذا كان الشَّبه بين الشيئين مما يقرُب مأخذه وَيَسْهُل متناوَلُه، ويكونُ في الحالِ دليلٌ عليه، وفي العُرف شاهدٌ له، حتى يُمكن المخاطَبَ إذا أطلقت له الاسم أن يعرف الغَرَضَ ويعلم ما أردت، فكل شيء كان من الضَّرب الأول الذي ذكرتُ أنك تكتفي فيه بإطلاق الاسم داخلاً عليه حرف التشبيه نحو قولهم هو كالأسد، فإنك إذا أدخلت عليه حكم الاستعارة وجدت في دليل الحال، وفي العرف ما يُبيِّن غرضك، إذ يُعْلَم إذا قلت رأيت أسداً، وأنت تريد الممدوح، أنّك قصدت وصفَه بالشجاعة وإذا قلت طلعت شمسٌ، أنت تريد امرأة، عُلِم أنك تريد وَصْفها بالحسن، وإن أردت الممدوح عُلِم أنك تقصِد وصفَه بالنَّباهة والشرف. فأما إذا كان من الضرب الثاني الذي لا سبيل إلى معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل التي يعقد بها التمثيل، فإن الاستعارة لا تدخله، لأن وجه الشبه إذا كان غامضاً لم يَجُز أن تقتسر الاسم وتَغْصِب عليه موضعه، وتنقله إلى غير ما هو أهله من غير أن يكون معك شاهدٌ يُنبئُ عن الشَبه. فلو حاولتَ في قوله: فإنَّك كالليلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي أن تُعامل الليلَ معاملةَ الأسد في قولك: رأيت أسداً، أعني أن تُسقط ذكر الممدوح من البَيْن، لم تجد له مذهباً في الكلام، ولا صادفت طريقةً تُوَصِّلك إليه، لأنك لا تخلُو من أحد أمرين إمّا أن تحذفَ الصفةَ وتقتصر على ذكر الليل مجرّداً فتقول إن فررتُ أظلّني اللَّيل، وهذا محال، لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التي قصدها من أنه لا يفوتُه وإن أبعد في الهرب، وصار إلى أقصى الأرض، لسعة مُلكه وطول يده، وأَنّ له في جميع الآفاق عاملاً وصاحبَ جيش ومُطيعاً لأوامره يردُّ الهارب عليه ويسوقه إليه وغايةُ ما يتأتَّى في ذلك أن يريد أنه إن هرب عنه أظلمت عليه الدنيا، وتحيَّر ولم يهتدِ، فصار كمن يحصُل في ظُلمة الليل، وهذا شيء خارج عن الغَرَض، وكلامنا على أن تستعير الاسم ليؤدَّى به التشبيه الذي قُصِد في البيت ولم أُرِد أنه لا تُمكن استعارته على معنًى ما، ولا يَصْلُح في غرض من الأغراض. وإن لم تحذف الصفة، وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدِّي إلى تعسّف، إذ لو قلت إن فررتُ منك وجدتُ ليلاً يُدْركني، وإن ظننتُ أنّ المنتأَى واسعٌ والمهرَبَ بعيدٌ قلتَ ما لا تقبله الطِّباع، وسلكتَ طريقةً مجهولةً، لأن العُرف لم يَجْرِ بأن يُجعل الممدوحُ ليلاً هكذا، فأمّا قولهم إن التشبيه بالليل يتضمّن الدِّلالة على سُخطه، فإنه لا يُفسح في أن يجرى اسم الليل على الممدوح جَرْيَ الأسدِ والشمس ونحوهما، وإنما تصلُح استعارة الليل لمن يُقصَد وصفُه بالسَّواد والظلمة، كما قال ابن طباطبا: بَعثْتَ معي قِطْعاً من الليل مُظلمَ يعني زِنْجيّاً قد أنفذه المخاطَبُ معه حين انصرف عنه إلى منزله، هذا وربّما - بل كلما - وجدتَ ما إن رُمْتَ فيه طريقةَ الاستعارة، لم تجد فيه هذا القدر من التُّمحل والتكلُّف أيضاً،و وهو كقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: الناسُ كإبلٍ مئة لا تجدُ فيها راحلة، قُل الآن من أيّ جهة تصِلُ إلى الاستعارة ههنا، وبأيّ ذريعة تَتذرَّع إليها? هل تقدر أن تقول: رأيت إبلاً مئة لا تجد فيها راحلة في معنى: رأيت ناس والإبل المئة التي لا تجد فيها راحلةً، تريد الناس، كما قلت: رأيت أسداً على معنى رجلاً كالأسد والأسد، على معنى الذي هو كالأسدُ? وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ المُؤمِن كمثل النَّخلة ومثل الخامة، لا تستطيع أن تتعاطى الاستعارة في شيء منه فتقولَ: رأيت نَخلة وخامةً على معنى رأيت مؤمناً، إنَّ من رام مثل هذا كان كما قال صاحب الكتاب: مُلْغِزاً تاركاً لكلام الناس الذي يَسْبِق إلى أفئدتهم، وقد قدّمتُ طرفاً من هذا الفصل فيما مضى، ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره. فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نَقْلُ الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة، وإسقاطِ ذكر المشبَّه جملةً، والاقتصار على المشبَّه به، وبقي أن نتعرّف الحكمَ في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به مذكوراً فيه، نحو زيدٌ أسدٌ ووجدته أسداً، هل تُساوِقُ صريحَ التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قُصِدَ تشبيهُ أحدهما بالآخر أن تحذف الكافَ ونحوها من الثاني، وتجعله خبراً عن الأول وبمنزلة الخبر? والقولُ في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف، ومثل، كان الأعرفُ الأشهر في المشبَّه به أن يكون معرفةً، كقولك: هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث العرين وكالصبح وكالنجم وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء نكرةً مجيئاً يُرتضَى نحو هو كأسد وكبحر وكغَيْث، إلا أن يُخَصَّص بصفة نحو كبحرٍ زاخر، فإذا جعلت الاسمَ المجرور بالكاف مُعْرَباً بالإعراب الذي يستحقّه الخبر من الرفع والنصب، كان كلا الأمرين - التعريف والتنكيرِ - فيه حسناً جميلاً، تقول: زيدٌ الأسد والشمس والبحرُ وزيد أسدٌ وشمس وبدر وبحر. وإذْ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو فإنك كالليل الذي هو مدركيبِق إلى أفئدتهم، وقد قدّمتُ طرفاً من هذا الفصل فيما مضى، ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره. فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نَقْلُ الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة، وإسقاطِ ذكر المشبَّه جملةً، والاقتصار على المشبَّه به، وبقي أن نتعرّف الحكمَ في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به مذكوراً فيه، نحو زيدٌ أسدٌ ووجدته أسداً، هل تُساوِقُ صريحَ التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قُصِدَ تشبيهُ أحدهما بالآخر أن تحذف الكافَ ونحوها من الثاني، وتجعله خبراً عن الأول وبمنزلة الخبر? والقولُ في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف، ومثل، كان الأعرفُ الأشهر في المشبَّه به أن يكون معرفةً، كقولك: هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث العرين وكالصبح وكالنجم وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء نكرةً مجيئاً يُرتضَى نحو هو كأسد وكبحر وكغَيْث، إلا أن يُخَصَّص بصفة نحو كبحرٍ زاخر، فإذا جعلت الاسمَ المجرور بالكاف مُعْرَباً بالإعراب الذي يستحقّه الخبر من الرفع والنصب، كان كلا الأمرين - التعريف والتنكيرِ - فيه حسناً جميلاً، تقول: زيدٌ الأسد والشمس والبحرُ وزيد أسدٌ وشمس وبدر وبحر. وإذْ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو فإنك كالليل الذي هو مدركي واعلم أنه قد يجوز فيه أن تحذف الكاف وتجعل المجرور كان به، خبراً، فتقول: فإنك الليل الذي هو مدركي، وأنت الليل الذي هو مدركي، وتقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ المؤمن مَثَل الخامة من الزرع، المؤمن الخامة من الزرع، وفي قوله عليه السلام: الناس كإبلٍ مئة)3(: الناس إبل مئة، ويكون تقديره على أنك قدّرت مضافاً محذوفاً على حدّ: وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82، تجعل الأصل: فإنك مثلُ الليل ثم تحذف مِثْلاً، والنكتةُ في الفرق بين هذا الضرب الذي لا بُدّ للمجرور بالكاف ونحوِها من وَصْفه بجملة من الكلام ونحوها، وبين الضرب الأول الذي هو نحو زيد كالأسد أنك إذا حذفتَ الكاف هناك فقلت: زيدٌ الأسد، فالقصد أن تبالغ في التشبيه فتجعل المذكورَ كأنه الأسد، وتشير إلى مثل ما يَحصُلُ لك من المعنى إذا حذفت ذكر المشبَّه أصلاً فقلت: رأيت أسد والأسَد، فأمّا في نحو فإنك كالليل الذي هو مدركي، فلا يجوز أن تقصِد جعلَ الممدوحِ الليلَ، ولكنك تنوي أنك أردت أن تقول فإنك مِثل الليل، ثم حذفت المضاف من اللفظ، وأبْقَيت المعنى على حاله إذا لم تحذف، وأمَّا هناك، فإنه وإن كان يقال أيضاً إن الأصل زيد مثل أسد ثم تحذف فليس الحذفُ فيه على هذا الحدّ، بل على أنه جُعل كأَنْ لم يكن لقصد المبالغة، ألا تراهم يقولون: جعله الأسد? وبعيدٌ أن تقول جعله الليل، لأن القصد لم يقع إلى وصف في الليل كالظلمة ونحوها، وإنّما قُصد الحكمُ الذي له، من تعميمه الآفاق، وامتناعِ أن يصير الإنسان إلى مكان لا يُدركه الليلُ فيه. وإن أردت أن تزداد علماً بأن الأمر كذلك أعني أن هاهنا ما يصلح فيه التشبيه الظاهر ولا تصلح فيه المبُالغة وجَعلُ الأولِ الثاني فاعمد إلى ما تجد الاسم الذي افتُتح به المَثَل فيه غيرَ محتمل لضربٍ من التشبيه إذا أُفردِ وقُطع عن الكلام بعده، كقوله تعالى: {إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 34، لو قلت إنما الحياة الدنيا ماءٌ أنزلناه من السماء والماء ينزل من السماء فتخضّر منه الأرض، لم يكن للكلام وجهٌ غيرُ أن تقدّر حذف مِثْل نحو إنما الحياة الدنيا مِثْلُ ماء ينزل من السماء فيكون كيت وكيت، إذ لا يُتصوَّر بين الحياة الدنيا والماء شَبَهٌ يصحُّ قصدُه وقد أُفْرِد، كما قد يُتخيَّل في البيت أنه قصد تشبيه الممدوح بالليل في السُّخط. وهذا موضعٌ في الجملة مُشْكِلٌ، ولا يمكن القطع فيه بحكم على التفصيل، ولكن لا سبيل إلى جَحْد أنك تجد الاسم في الكثير وقد وُضِع موضعاً في التشبيه بالكاف، لو حاولتَ أن تُخرجه في ذلك الموضع بعينه إلى حدّ الاستعارة والمبالغة، وجَعْلِ هذا ذاك، لم يَنْقَدْ لك، كالنكرة التي هي ماء في الآية وفي الآي الأُخَر نحو قوله تعالى: {أَو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19، ولو قلت هم صيّبٌ، ولا تُضمر مِثلاً ألبتَّة، على حدّ هو أسد لم يجز، لأنه لا معنى لجعلهم صيِّباً في هذا الموضع، وإن كان لا يمتنعُ أن يقعَ صيِّب في موضع آخر ليس من هذا الغَرَض في شيء استعارةً ومبالغةً، كقولك: فاضَ صَيِّبٌ منه، تريد جوده، وهو صَيِّب يَفيض، تريد مندفق في الجود، فلسنا نقول إن هاهنا اسمَ جنسٍ واسماً صفةً لا يصلح للاستعارة في حال من الأحوال، وهذا شِعب من القولِ يحتاج إلى كلام أكثر من هذا ويدخل فيه مسائل، ولكن استقصاءه يقطع عن الغرض. فإن قلت فلا بدّ من أصلٍ يُرجع إليه في الفرق بين ما يحسُن أن يُصرَف وَجْهُه إلى الاستعارة والمبالغة، وما لا يحسن ذلك فيه، ولا يُجيبك المعنى إليه، بل يصدُّ بوجهه عنك متى أردته عليه . فالجواب إنه لا يمكن أن يقال فيه قولٌ قاطع، ولكن هاهنا نكتة يجب الاعتماد عليها والنظر إليها، وهي أن الشَّبه إذا كان وصفاً معروفاً في الشيء قد جرى العُرف بأن يُشبَّه من أجله به، وتُعُورف كونه أصلاً فيه يقاسُ عليه كالنور والحُسن في الشمس، والاشتهار والظهور، وأنّها لا تَخْفَى فيها أيضاً وكالطيب في المسك، والحلاوة في العسل، والمرارة في الصاب، والشجاعة في الأسد، والفيض في البحر والغيث، والمَضاء والقَطْع والحِدَّة في السيف، والنفاذِ في السِّنان، وسرعة المرور في السَّهم، وسرعة الحركةِ في شعلةِ النار، وما شاكل ذلك من الأوصاف التي لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه، ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة، وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولاً فيها، وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ، فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه، لم يخفَ المرادُ، ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يَجُزْ أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز، فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة من الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قُلتَ: يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ وَ: يا ابنَ الليوثِ الغُر فأجريت الاسمَ على المشبَّة إجراءَه على أصله الذي وُضع له وادّعيتَه له، كان قولك: هم الكواكب وهم الليوث وهم كواكب وليوث، أحْرَى أن تقوله، وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في وقوعِ العلم له به. واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً، أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ عن نفسه الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد، ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه، فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له حظّاً ظاهراً في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد، وإذا قال هو الأسد، تناهَى في الدعوى، إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل، وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً، وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر الأسد في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على ذلك السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها في استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه به تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ، فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه الآخر توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت: زيد هو أبو عبد اللَه، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه، من الأوصاف التي لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه، ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة، وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولاً فيها، وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ، فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه، لم يخفَ المرادُ، ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يَجُزْ أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز، فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة من الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قُلتَ: يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ وَ: يا ابنَ الليوثِ الغُر فأجريت الاسمَ على المشبَّة إجراءَه على أصله الذي وُضع له وادّعيتَه له، كان قولك: هم الكواكب وهم الليوث وهم كواكب وليوث، أحْرَى أن تقوله، وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في وقوعِ العلم له به. واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً، أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ عن نفسه الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد، ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه، فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له حظّاً ظاهراً في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد، وإذا قال هو الأسد، تناهَى في الدعوى، إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل، وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً، وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر الأسد في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على ذلك السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها في استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه به تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ، فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه الآخر توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت: زيد هو أبو عبد اللَه، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه، والثاني أن يراد تحققُ التشابُه بين الشيئين، وتكميلُه لهما، ونَفْيُ الاختلاف والتفاوت عنهما، فيقال: هو هو، أي لا يمكن الفرقُ بينهما، لأن الفرق يقع إذا اخْتُصَّ أحدهما بصفةٍِ لا تكون في الآخر، هذا المعنى الثاني فرعٌ على الأوّل، وذلك أن المتشابهين التشابُهَ التامَّ، لمَّا كان يُحسَبُ أحدهما الآخر، ويَتوهَم الرائي لهما في حالين أنه رأى شيئاً واحداً، صاروا إذا حققوا التشابُه بين الشيئين يقولون هو هو، والمشبّه إذا وقف وَهْمَه كما عرَّفتُك على الشجاعة دون سائر الأمور، ثم لم يُثبت بين شجاعة صاحبه وشجاعة الأسد فرقاً، فقد صار إلى معنى قولنا: هو هو بلا شبهة. وإذا تقررت هذه الجملة فقوله فإنك كالليل الذي هو مدركي إن حاولت فيه طريقة المبالغة فقلت: فإنك الليل الذي هو مدركي، لزمك لا محالة أن تعْمِد إلى صفةٍ من أجلها تجعله الليل، كالشجاعة التي من أجلها جعلت الرجلَ الأسدَ، فإن قلت تلك الصفةُ الظُّلمةُ، وإنّه قصد شدّةَ سخطِه، وراعى حال المسخوط عليه، وتوهّم أن الدنيا تُظلم في عينيه حسَب الحال في المُسْتَوْحِش الشديد الوَحْشَة، كما قال أَعيدوا صَباحِي فَهْوَ عند الكواعبِ قيل لك هذا التقدير، إن استجزناه وعملنا عليه، فإنا نحتمله، والكلامُ على ظاهره، وحرف التشبيه مذكورٌ داخلٌ على الليل كما تراه في البيت، فأمّا وأنت تريد المبالغة، فلا يجيء لك ذلك، لأن الصفات المذكورة لا يُواجَه بها الممدوحون، ولا تُسْتعار الأسماء الدالّة عليها لهم إلا بعد أن يُتدارك وتُقرَن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة، كقوله أنت الصَّاب والعَسَلُ ولا تقول وأنت مادح أنت الصابُ وتسكت، وحتى إن الحاذقَ لا يرضى بهذا الاحتراز وحده حتى يزيد ويحتال في دفع ما يَغْشَى النفسَ من الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة، فيصل بالكلام ما يخرُج به إلى نوع من المدح، كقول المتنبي: حَسَنٌ في وُجوهِ أعدائهِ أقْ *** بَحُ من ضَيْفه رَأَته السَّوَامُ بدأ فجعله حسناً على الإطلاق، ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه، على العادة في مدح الرجل بأن عدوَّه يكرهه، فلم يُقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القُبح، حتى وصل به هذه الزيادةَ من المدح، وهي كراهةُ سَوامِهِ لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكرُ القبح مغموراً بين حُسنين، فصار كما يقول المنجّمون: يقع النَّحس مضغوطاً بين سَعْدين، فيبطل فعله وينمحق أثره. وقد عرفتَ ما جَناه التهاوُنُ بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام، حتى صار ما يُنعَى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمُنْكِر لفضله، وأحْضَر حُجّةً للمتعصّب عليه، وذلك أنه لم يُبالِ في كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ، واقتصر على صميم التشبيه، وأطلق اسم الجنس الخسيس كإطلاق الشريف النَّبيه، كقوله: وإذا ما أردتُ كنتَ رِشاءً *** وإذا ما أردتُ كنتَ قَليبَ فصَكَّ وجهَ الممدوح كما ترى بأنه رشاءٌ وقليبٌ، ولم يحتشم أن قال: مازَال يهذِي بالمكارِم والعُلَى *** حتى ظَنَنّا أنَّه مَـحْـمُـومُ فجعله يهذي وجعل عليه الحُمَّى، وظنّ أنه إذاحصلَ له المبالغة في إثبات المكارم له، وجعلها مستبدّة بأفكاره وخواطره، حتى لا يصدر عنه غيرُها، فلا ضير أن يتلقَّاه بمثل هذا الخطاب الجافي، والمدح المتنافي. فكذلك أنت هذه قِصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغَة على تأويل السُّخط. فإن قلت أَفَتَرَى أن تأبَى هذا التقدير في البيت أيضاً حتى يُقْصَر التشبيهُ على ما تُفيده الجملة الجارية في صلة الذي، قلتُ إنّ ذلك الوجهُ فيما أظنُّه، فقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لَيدخُلنَّ هذا الدينُ ما دَخَل عليه الليلُ، فكما تجرَّد المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجهٌ، كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له، ويكون ما ادَّعوه من الإشارة بظُلْمة الليل إلى إدراكه له ساخطاً، ضرباً من التعمّق والتطلُّب لما لعلّ الشاعر لم يقصده، وأحسنُ ما يمكن أن يُنتصَر به لهذا التقدير أن يقال إن النهارَ بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان، فما مِنْ موضع من الأرض إلا ويُدركه كلُّ واحد منهما، فكما أن الكائن في النهار لا يُمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعاً لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصُه الليلَ دليلٌ على أنه قد روَّى في نفسه، فلما علم أن حالَة إدراكه وقد هربَ منه حالةُ سُخْطٍ، رأى التمثيل بالليل أولَى، ويُمكن أن يزاد في نصرته بقوله: نعمةٌ كالشَّمْس لمَّا طَلعَتْ *** بَثَّتِ الإشراقَ في كلِّ بَلَدْ وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار، والوصول إلى كل مكان، إلاّ أن النعمة لما كانت تَسُرُّ وتُؤنِس، أخذ المثلَ لها من الشمس، ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد، وانتشارِها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بَلَدٍ، وبُلوغه كلَّ أحد، لكان قد أخطأ خطأً فاحشاً، إلاّ أن هذا وإن كان يجيء مستوياً في الموازنة، ففرقٌ بين ما يُكرَهُ من الشَّبه وما يُحَبُّ، لأن الصفةَ المحبوبة إذا اتصلت بالغَرَض من التشبيه، نالت من العناية بها المحافظة عليها قريباً مما يناله الغَرَض نفسه، وأّما ما ليس بمحبوب، فَيَحْسُن أَن يعْرض عنها صفحاً، ويدَع الفكر فيها، وأما تركُه أن يمثَّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه، فيمكن أن يُجاب عنه بأنّ هذا الخطابَ من النابغة كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في النهار، بَعُدَ أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر، وطَرَيانه على النهار متوقَّع، فكأنّه قال وهو في صدر النهار وآخره لو سرتُ عنك لم أجد مكاناً يقيني الطلبَ منك، ولكان إدراكُك لي وإن بعُدت واجباً، كإدراك هذا الليل المقبل في عَقب نهارِي هذا إيَّاي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض. وهاهنا شيء آخر وهو أنّ تشبيه النعمة في البيت بالشمس، وإن كان من حيثُ الغرضُ الخاصُّ، وهو الدِّلالة على العموم، فكان الشَّبه الآخرُ من كونها مُؤْنسةً للقلوب، ومُلبسةً العَالَم البهجةَ والبهاءَ كما تفعل الشمس، حاصلاً على سبيل العَرَض، وبضَرْبٍ من التطفُّل، فإنّ تجريدَ التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابعٌ، وجَعْلَهُ أصلاً ومقصوداً على الانفراد، مألوفٌ معروفٌ كقولنا نعمتك شمسٌ طالعة، وليس كذلك الحكم في الليل، لأن تجريدَه لوصف الممدوح بالسُّخْط مُسْتَكرَهٌ، حتى لو قلت أنت في حال السخط ليلٌ وفي الرّضى نهارٌ، فكافحتَ هكذا تجعله ليلاً لسخطه، لم يحسُن، وإنما الواجب أن تقول: النهار ليل على من تغضبُ عليه، والليل نهار على من ترضى عنه، وزمانُ عدوِّك ليلٌ كله، وأوقات وَلِيِّك نهارٌ كلها، كما قال: أَيَّامُنَا مَصْقولةٌ أطرافُها *** بك واللَّيالي كُلُّها أَسْحَارُ وقد يقول الرجل لمحبوبه أنت ليلى ونهارى، أي بك تُضيء لي الدنيا وتُظلم، فإذا رضيتَ فدهري نهارٌ، وإذا غضِبت فليلٌ كما تقول: أنت دَائي ودَوائي، وبُرْئٍي وسِقامي، ولا تكاد تجد أحدا يقول أنت ليل، على معنى أن سخطك تُظلم به الدنيا، لأن هذه العبارة بالذمِّ، وبالوصف بالظُلمة وسواد الجلد، وتَجهُّمِ الوجه، أخصُّ، وبأن يُرَاد بها أخلق، وهذا المعنى منها إلى القلب أسبق فاعرفه. اعلم أنك تجد الاسم وقد وقع من نظم الكلام المَوْقعَ الذي يقتضي كونَهُ مستعاراً، ثم لا يكون مستعاراً، وذاك لأن التشبيهَ المقصودَ مَنُوطٌ به مع غيره، وليس له شَبَهٌ ينفرِدُ به، على ما قدّمتُ لك من أن الشبه يجيء مُنْتَزَعاً من مجموع جملة من الكلام، فمن ذلك قول داود بن عليّ حين خطب فقال شُكراً شكراً، إنّا واللَّه ما خرجنا لنَحْفِر فيكم نَهَراً، ولا لنَبْنِيَ فيكم قَصْراً، أَظَنَّ عدوُّ اللَّه أن لن يُظفَر به، أُرخيَ له في زِمامه، حتى عَثَر في فضل خطَامه، فالآن عاد الأمرُ في نِصابه، وطلعت الشمس من مَطْلعها، والآن قد أَخذ القوسَ باريها، وعاد النَّبْلُ إلى النَزَعة، ورجع الأَمر إلى مستقَرِّه في أهلِ بيت نبيّكم، أهلِ بيت الرَّأْفَة والرَّحْمة، فقوله الآن أخذَ القَوْسَ بَاريها، وإن كان القوس تقع كنايةً عن الخلافة، والبَاري عن المستحقّ لها، فإنه لا يجوز أن يقال إن القوس مستعارٌ للخلافة على حدِّ استعارة النور والشمس، لأجل أنه لا يتَصَوَّر أن يَخرج للخلافة شَبَهٌ من القول على الانفراد، وأن يقال: هي قوس، كما يقال: هي نور وشمس، وإنما الشَّبَهُ مؤلَّفٌ لحال الخِلافة مع القائم بها، من حال القَوْس مع الذي بَرَاهَا، وهو أن البَارِي للقوس أعرفُ بخيرها وشرّها، وأهدَى إلى توتيرها وتصريفها، إذ كان العاملَ لها فكذلك الكائنُ على الأوصاف المعتبرَة في الإمامة والجامعُ لها، يكون أهدى إلى توفية الخلافة حقَّها، وأَعْرَفَ بما يحفظ مَصارفها عن الخَلَل، وأن يراعَي في سياسة الخلق بالأمر والنَّهْي التي هي المقصودُ منها ترتيباً ووزناً تقع به الأفعالُ مواقعَها من الصواب، كما أنّ العارف بالقوس يراعي في تسوية جوانبها، وإقامة وَتَرها، وكيفيةِ نَزْعها ووَضْعِ السهم الموضعَ الخاصَّ منها، ما يوجب في سهامه أن تصيب الأغراض، وتُقرطس في الأَهداف، وتقع في المَقاتل، وتُصيب شاكلة الرَّمِيّ. وهكذا قول القائل وقد سمع كلاماً حسنا من رجلٍ دَميم: عَسَلٌ طيّبٌ في ظَرْفِ سَوْءٍ، ليس عَسَلٌ هاهنا على حدِّه في قولك ألفاظه عسل، لأجل أنه لم يقصد إلى بيان حال اللَّفظ الحسن وتشبيهه بالعسل في هذا الكلام، وإن كَان ذلك أمراً معتاداً، وإنما قصد إلى بيان حال الكلام الحَسَن من المتكلم المَشْنُوء في منظره، وقياسِ اجتماع فَضْلِ المخبر مع نَقْص المنظر، بالشبه المؤلَّف من العَسَل والظَّرْف، ألا ترى أن الذي يقابل الرجل هو ظَرْف سَوْءٍ وظرفُ سَوْءٍ لا يصلح تشبيهُ الرجل به على الانفراد، لأن الدَّمامةَ لا تُعطيه صفة الظَّرف من حيث هي دمامةٌ، ما لم يتقدم شيءٌ يُشبه مَا في الظرف من الكلام الحسن والخُلقِ الجميلِ، وسائر المعاني التي تجعَل الأشخاصُ أوعيةً لها. فمن حقك أن تحافظ على هذا الأصل، وهو أن الشَّبَه إذا كان موجوداً في الشيء على الانفراد من غير أن يكون نتيجةً بينه وبين شيء آخر فالاسمُ مستعارٌ لما أخذ له الشَّبه منه، كالنور للعلم والظلمة للجهل، والشمس للوجه الجميل، والرجل النبيه الجليل، وإذا لم تكن نسبةُ الشَّبَه إلى الشيء على الانفراد، وكان مركَّباً من حاله مع غيره، فليس الاسم بمستعار، ولكن مجموع الكلام مَثَل. واعلم أن هذه الأمور التي قصدتُ البحث عنها أمورٌ كأنّها معروفة مجهولة، وذلك أنها معروفة على الجملة، لا ينكر قيامَها في نفوس العارفين ذَوْقُ الكلام، والمتمهّرين في فصل جيده من رديئه، ومجهولةٌ من حيث لم يتفق فيها أوضاعٌ تجري مجرى القوانين التي يُرجَع إليها، فتُستخرج منها العلَل في حُسن ما استُحْسِن وقُبح ما استُهْجن، حتى تُعْلَم عِلْمَ اليقين غيرَ الموهوم، وتُضبَط ضبطَ المزْموم المَخْطومِ، ولعلَّ المَلال إن عرض لك، والنشاط إن فَتَر عنك، قلتَ ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة? وإنما يكفي أن يقال الاستعارة مثل كذا، فتُعَدُّ كلمات، وتُنْشَدُ أبيات، وهكذا يكفينا المَؤُونةَ في التشبيه والتمثيل يَسيرٌ من القول، فإنك تعلم أن قائلاً لو قال الخبر مثل قولنا زيد منطلق، ورضي به وقَنِع، ولم تطالبه نفسُه بأن يعرف حدّاً للخبر، إذا عرفه تَميَّز في نفسه من سائر الكلام، حتى يمكنهُ أن يعلم هاهنا كلاماً لفظُه لفظُ الخبر، وليس هو بخبرٍ، ولكنه دعاءٌ كقولنا: رحمةُ اللَّه عليه وغفر الله له ولم يجد في نفسه طلباً لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم ولا ينقسم، وأنّ أوّل أمره في القسمة أنه ينقسم إلى جملة من الفعل والفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر، وأَنَّ ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف، نعم ولم يُحبَّ أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروفٌ بعضها يؤكّد كونها خبراً، وبعضها يُحدث فيها معاني تخرُج بها عن الخَبَرية واحتمال الصدق والكذب. وهكذا يقول إذا قيل له: الاسم مثل زيد وعمرو، اكتفيتُ ولا أحتاج إلى وصفٍ وحدٍّ يُميّزه من الفعل والحرف وحدٍّ لهما، إذا عرفتهما عرفتُ أن ما خالفهما هو الاسم، على طريقة الكُتّاب، ويقول لا أحتاج إلى أن أعرف أنَّ الاسم ينقسم فيكون متمكّن وغير متمكّن، والمتمكن يكون منصرفاً وغير منصرف، ولا إلى أن أعلم شرح غير المنصرف، الأسباب التسعة التي يقف هذا الحكم على اجتماع سببين منه وتكرُّر سببٍ في الاسم ولا أنه ينقسم إلى المعرفة والنكرة، وأن النكرة ما عَمَّ شيئين فأكثر، وما أريدَ به واحدٌ من جنس لا بعينه، والمعرفة ما أيد به واحدُ بعينه وجنس بعينه على الإطلاق ولا إلى أن أعلم شيئاً من الانقسامات التي تجيء في الاسم، كان قد أساء الاختيار، وأسرف في دعوى الاستغناء عما هو محتاج إليه إن أراد هذا النوع من العلم ولئن كان الذي نتكلّف شرحَه لا يزيد على مؤدَّى ثلاثةِ أسماء، وهي التمثيل والتشبيه والاستعارة، فإن ذلك يستدعي جُملاً من القول يَصْعُبُ استقصاؤها، وشُعَباً من الكلام لا يستبين لأول النظر أنحاؤها، إذ قولُنا: شيء يحتوي على ثلاثة أحرف، ولكنك إذا مددت يداً إلى القسْمة وأخذت في بيان ما تحويه هذه اللفظة، احتجت إلى أن تقرأ أوراقاً لا تُحصَى، وتتجشّمَ من المَشقَّة والنَظرِ والتفكير ما ليس بالقليل النزر، والجزء الذي لا يتجزّأ، يفوت العين، ويدقّ عن البَصَر، والكلام عليه يملأ أجلاداً عظيمة الحجم، فهذا مَثَلك إن أنكرت ما عُنيتُ به من هذا التَتبُّع، ورأيتُه من البحث، وآثرتُه من تجشُّم الفكرة وسَوْمها أن تدخل في جوانب هذه المسائل وزواياها، وتستثير كوامنَها وخفاياها، فإن كنتَ ممن يرضى لنفسه أن يكون هذا مَثَله، وهاهنا محلُّه، فعِبْ كيف شئتَ، وقل ما هَويتَ، وثقْ بأن الزمان عونُك على ما ابتغيت، وشاهدُك فيما ادّعيت، وأنك واجدٌ من يصوّب رأيك ويحسِّن مذهبك، ويخاصم عنك، ويُعادِي المخالف لك. وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل القسم العقلي اعلم أن الُحكْم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسَرَق، واقتدى بمن تقدَّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً، وفي صيغة تتعلق بالعبارة، ويجب أن نتكلم أوّلاً على المعاني، وهي تنقسم أوَّلاً قسمين: عقليّ وتخييليّ، وكل واحدٍ منهما يتنوّع، فالذي هو العقلي على أنواع: أوّلها: عقليٌّ صحيحٌ مَجراه في الشعر والكتابة والبيانِ والخطابة، مَجْرَى الأدلّة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تُثيرها الحكماء، ولذلك تجدُ الأكثر من هذا الجنس مُنْتَزَعاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي اللَّه عنهم، ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنُهم الصدق، وقصدُهم الحقُّ، وترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء، فقوله: وَمَا الحسَبُ المورُوثُ لا دَرَّ دَرُّه *** بمُحْتَسَبٍ إلاّ بآخَرَ مُكْـتـسَـبْ ونظائرُه، كقوله: إنّي وإن كنتُ ابنَ سَـيِّد عـامـرٍ *** وفي السِّرِّ منها والصَّريحِ المهذَّبِ لَمَا سوَّدتني عـامـرٌ عـن وِراثةٍ *** أَبَى اللَّه أن أسمُـو بـأُمٍّ ولا أب معنًى صريحٌ محضٌ يشهد له العقل بالصحة، ويُعطيه من نفسه أكرم النِّسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجَبه، في كل جيل وأمّة، ويوجد له أصل في كل لسَان ولُغة، وأعلى مَنَاسبه وأنورُها، وأجلُّها وأفخرها، قول اللَّه تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أَبْطأَ به علمُه لم يُسْرِع به نسبُه، وقوله عليه السلام: يا بني هاشم، لا تجيئني الناسُ بالأعمال وتجيئوني بالأنساب، وذلك أنه لو كانت القضيّة على ظاهرٍ يَغْترُّ به الجاهل، ويعتمدُه المنقوصُ، لأدَّى ذلك إلى إبطال النَّسب أيضاً، وإحالة التكثّر به، والرجوع إلى شَرَفه، فإن الأوّل لو عَدِمَ الفضائلَ المكتسَبة، والمساعيَ الشريفة، ولم يَبِنْ من أهل زمانه بأفعالٍ تُؤَْثر، ومناقب تُدَوَّن وتُسَطَّر، لما كان أَوَّلاً، ولكان المَعْلَم من أمره مَجْهلاً، ولما تُصُوّر افتخار الثاني بالانتماء إليه، وتعويلُه في المفاضلة عليه، ولكان لا يُتصوَّر فَرْقٌ بين أن يقول: هذا أبي، ومنه نسبي، وبين أن يُنسَب إلى الطين، الذي هو أصل الخلق أجمعين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كلُّكم لآدم، وآدمُ من التراب، وقال محمد بن الربيع الْمَوْصلي: الناس في صورة التّشبيه أكفاءُ *** أبـوهُـمُ آدمٌ والأُمُّ حــوَّاءُ فإن يكن لهُم في أصلها شَرَفٌ *** يفاخرون به فالطِّين والـمـاءُ ما الفضل إلا لأهل العلم إنهـمُ *** على الهُدَى لمن استهدَى أَدلاّءُ ووَزْنُ كل امرئ ما كان يُحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعـداءُ فهذا كما ترى باب من المعاني التي تُجمَع فيها النظائر، وتُذكَر الأبيات الدالّة عليها، فإنها تتلاقى وتتناظر، وتتشابه وتتشاكل، ومكانُه من العقل ما ظَهَر لك واستبان ووضح واستنار، وكذلك قوله: وكل امرئ يُولِي الجميلَ محبَّبٌ صريحُ معنًى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يُلْبَسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة، وكيفيةِ التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف وضدّه، وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم: جُبلت القلوبُ على حُبّ من أحسن إليه، بَل قول اللَّه عز وجل: {ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34، وكذا قوله: لاَ يَسْلَم الشَّرفُ الرَّفيع من الأَذَى *** حتَّى يُراقَ على جَوانِبِـه الـدَّمُ معنًى معقولٌ لم يزل العُقلاءُ يَقْضون بصحّته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسنَّته، وبه جاءت أوامِر اللَّه سبحانه، وعليه جَرَت الأحكام الشرعية والسّنَن النبوية، وبه استقام لأهل الدِّين دينهم، وانتفى عنهم أذَى مَن يَفْتِنهم ويَضيرُهم، إذ كان موضوع الجبلَّة على أن لا تخلو الدنيا من الطُغاة المارِدين، والغُواة المعاندين، الذين لا يَعُونَ الحكمة فَتَرْدَعَهم، ولا يَتَصوَّرون الرشدَ فيكُفَّهم النُّصْحُ ويمنعهم، ولا يُحسّون بنقائص الغَيّ والضلال، وما في الجَوْر والظلم من الضَّعة والخَبال، فيجِدوا لذلك مَسَّ أَلَمٍ يحبِسُهم علَى الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسِّباع، لا يوجعهم إلاّ ما يَخْرِق الأبشار من حَدّ الحديد، وسَطْو البأس الشديد، فلو لم تُطبَع لأمثالهم السيوف، ولم تُطلَق فيهم الحتوف، لما استقام دينٌ ولا دنيَا، ولا نال أهلُ الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشُرب من مَنْهلٍ لم تُنفَ عنه الأَقذاء، ولا تَقَرُّ الروح في بدنٍ لم تُدفَع عنه الأَدواء. وكذلك قوله: إذا أنت أكرمت الكـريم مَـلَـكْـتَـه *** وَإن أَنت أكرمْـت الـلَّـئيمَ تَـمَـرَّد وَضْعُ النَدى في مَوْضِع السيف بالعلَـى *** مُضرٌّ كَوضْع السَّيف في مَوْضِع الندَى لقسم التخييلي وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صِدقٌ، وإنَّ ما أثبتَه ثابت وما نفاه منفيّ، وهو مفتنُّ المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يُحصَر إلاّ تقريباً، ولا يُحاط به تقسيماً وتبويباً، ثم إنه يجيء طبقاتٍ، ويأتي على درجاتٍ، فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تُلُطِّف فيه، واستعين عليه بالرِفق والحِذق، حتى أُعطَي شَبَهاً من الحقّ، وغُشِّي رَوْنَقاً من الصّدق، باحتجاج تُمُحِّل، وقياسٍ تُصُنِّع فيه وتُعُمِّلَ، ومثالُه قول أبي تمام: ا تُنكري عَطَلَ الكَريم من الغِنَى *** فالسَّيلُ حَرْبٌ للمكانِ العالـى فهذا قد خَيَّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلوّ، والرِّفعة في قدره، وكان الغِنَى كالغَيْث في حاجة الخلق إليه وعِظَمِ نَفْعه، وجب بالقياس أن يزِلَّ عن الكريم، زَلِيلَ السَّيل عن الطَّوْد العظيم، ومعلومٌ أنه قياسُ تخييلٍ وإيهامٍ، لا تحصيلٍ وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على الأمكنة العالية، أن الماء سيَّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانبُ تَدْفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال، وأقوى من هذا في أن يُظنَّ حقّاً وصدقاً، وهو على التخيّل قوله: لشيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يفـارِقَـنـي *** أَعْجِبْ بشيءٍ على البَغْضَاء مَوْدودِ هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه أن يُدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه، فتراه لذلك يُنكره ويتكرَّهه على إرادته أن يدومَ له، إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهةُ والبغضاء لاحقةُ للشيب على الحقيقة، فأما كونه مُرَاد ومودوداً، فمتخيَّلٌ فيه، وليس بالحقَّ والصدق، بل المودود الحياة والبقاءُ، إلا أنه لما كانت العادة جاريةً بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زوالَه عن الدنيا وخروجه منها، وكان العيش فيها محبَّباً إلى النفوس، صارت محبّته لما لا يَبْقَى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب. من ذلك صَنِيعهم إذا أرادوا تفضيلَ شيء وقْصَه، ومدحه وذمَّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركُه في أوصافٍ ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهرِ أُمورٍ لا تَصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري: بَيَاضُ البازيِّ أصدقُ حسنـا *** إنْ تأمّلتِ من سَواد الغُرابِ وليس إذا كان البياضُ في البازي آنَقَ في العين وأخلق بالحسن من السواد في الغراب، وجب لذلك أن لايُذَمَّ الشيبُ ولا تنفرُ منه طباع ذوي الألباب، لأنه ليس الذنب كلَّه لتحوُّل الصِّبْغ وتبدُّل اللون، ولا أتَت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرَّد البياض، فإنهن يرينه في قُباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار الرَّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبِسْن، فما أنكرن ابيضاض شَعَر الفتى لنفس اللون وذاته، بل لذهاب بَهجاته، وإدباره في حياته، وإنك لترى الصُّفرة الخالصةَ في أوراق الأشجار المتناثرة عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشَّمال، فتكرهها وتنفرُ منها، وتراها بعينها في إقبال الربيع في الزَّهر المتفتِّق، وفيما ينْشئه ويَشِيه من الديباج المُؤْنق، فتجد نفسَك على خِلاف تلك القضيّة، وتمتلئ من الأريحيّة، ذاك لأنك رأيت اللونَ حيُ النماءُ والزيادة، والحياةُ المستفادة، وحيث أبشرتْ أرواح الرياحين، وبشّرت أنواع التحاسين، ورأيته في الوقت الآخَر حين ولَّت السعود، واقشعرَّ العُود، وذهبت البَشَاشة والبشْر، وجاء العُبوس والعُسْر. هذا ولو عدِم البازي فضيلةَ أنه جارح، وأنه من عَتيق الطير، لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه، ولم يكن للمحتجِّ به على من يُنكر الشيب ويذمُّه ما تراه من الاستظهار، كما أنه لولا ما يُهدي إليك المسك من رَيَّاه التي تتطلع إلها الأرواح، وتَهَشُّ لها النفوس وترتاح، ولضَعُفَت حُجّة المتعلق به في تفضيل الشَّباب، وكما لم تكن العلّةُ في كراهةِ الشيب بياضُهُ، ولم يكن هو الذي غَضَّ عنه الأبصار، ومنحه العيبَ والإنكار، كذلك لم يَحْسن سواد الشَعَر في العيون لكونه سواداً فقط، بل لأَنك رأيتَ رَوْنق الشباب ونضارتَه، وبَهْجتَه وطُلاَوتَه وَرأيت بريقَه وبصيصَه يَعِدانك الإقبال، ويُريانك الاقتبال، ويُحْضِرانك الثقَةَ بالبقاء، ويُبْعِدان عنك الخوفَ من الغناء، وإنّك لترى الرَّجُل وقد طَعَن في السنّ وشَعَرُه لم يبيضّ، وشيبه لم ينقضّ، ولكنه على ذاك قد عدِم إبهاجه الذي كان، وعاد لا يزينُ كما زان، وظهر فيه من الكمودوالجمود، ما يُريكَه غيرَ محمود. وهكذا قوله: والصَّارمُ المَصْقُولُ أحسنُ حالةً *** يومَ الوغَى من صارمٍ لم يُصْقَل احتجاجٌ على فضيلة الشيب، وأنه أحسن منظراً من جهة التعلق باللون، وإشارةٌ إلى أن السواد كالصَدَأ على صفحة السيف، فكما أن السيف إذا صُقل وجُلي وأزيل عنه الصَّدَأ ونُقِّيَ كان أبهى وأحسن، وأعجبَ إلى الرائي وفي عينه أزين، كذلك يجب أن يكون حُكْمُ الشعَر في انجلاء صدأ السواد عنه، وظهور بياض الصِّقَالِ فيه، وقد ترك أن يفكّر فيما عدا ذلك من المعاني التي لها يُكرَه الشيب، ويُنَاط به العيب. وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة، أن يجعلوا اجتماعَ الشيئين في وصفٍ عِلةً لحكمٍ يريدونه، وإن لم يكن كذلك في المعقول ومُقْتَضَيَات العقول، ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحِّح كونَ ما جعله أصلاً وعلّة كما ادَّعاهُ فيما يُبْرِم ويَنْقض من قضيّة، وأَن يأتي على ما صَيَّره قاعدةً وأساساً بيّنة عقلية، بل تُسلَّم مقدّمتُه التي اعتمدها بيّنةً، كتسليمنا أَنّ عائب الشيب لم ينكر منه إلاّ لونَه، وتناسِينا سائر المعاني التي لها كُره، ومن أجلها عِيب، وكذلك قول البحتري: كَلَّفْتُمُونَا حُدُودَ مَـنْـطِـقـكُـم *** في الشِّعر يَكْفِي عن صِدْقِهِ كَذِبُهْ أراد كلّفتمونا أن نُجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسَنا فيه بالقول المحقَّق، حتى لاَ ندَّعي إلا ما يقول عليه من العقل برهان يقطع به، ويُلجئ إلى موجَبه، ولا شكّْ أنه إلى هذا النحو قَصَد، وإيّاه عَمَد، إذ يبعُد أن يريد بالكذب إعطاءَ الممدوح حظَّاً من الفضل والسُّؤدد ليس له، ويُبلّغه بالصفة حظّاً من التعظيم ليس هو أهلَه، وأن يجاوز به من الإكثار محلَّه، لأن هذا الكذبَ لا يُبين بالحجَج المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما يكذَّب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وُصف به، والكشف عن قدره وخسّته، ورفعته وضَعَته، ومعرفة محلّه ومرتبته. وكذلك قول من قال خير الشعر أكذبه، فهذا مراده، لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعرٌ فضلاً ونقصاً، وانحطاطاً وارتفاعاً، بأن يَنحَل الوضيعَ صفةً من الرفعة هو منها عارٍِ، ويصفَ الشريف بنقص وعار، فكم جواد بخَّله الشعر وبخيلٍ سخَّاه؛ وشُجاعٍ وسمه بالجُبن وجبانٍ سَاوَى به الليث؛ ودَنِيٍّ أوطأه قِيمّة العيُّوق، وغَبيٍّ قضى له بالفهم، وطائش ادَّعى له طبيعة الحُكْم، ثم لم يُعتَبر ذلك في الشعر نفسه حيث تُنتقَدُ دنانيره وتُنشَر ديابيجه، ويُفتَق مسكه فيضوعُ أَريجُهُ. وأما من قال في معارضة هذا القول: خير الشعر أصدقه، كما قال: وإنَّ أَحْسَن بيتٍ أنت قائلهُ *** بَيْتٌ يقالُ إذا أنشدتَه صَدَقَا فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دلّ على حِكْمة يقبلها العقلُ، وأدبٍ يجب به الفضل، وموعظةٍ تُروِّض جماح الهوى وتبعث على التقوى، وتُبيّن موضع القُبح والحُسن في الأفعال، وتَفْصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد يُنحَى بها نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه، والأول أولى، لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر. فمن قال خيره أصدقه كان تركُ الإغراق والمبالغة والتجوُّز إلى التحقيق والتصحيح، واعتمادُ ما يجرى من العقل على أصل صحيح، أحبَّ إليه وآثرَ عنده، إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال أكذبُه، ذهب إلى أن الصنعة إنما تَمُدُّ باعها، وتنشر شُعَاعها، ويتّسع مَيْدانها، وتتفرّع أفنانها، حيث يعتمد الاتّساع والتخييل، ويُدَّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتخيل وحيث يُقصَد التلطف والتأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعرُ سبيلاً إلى أن يُبدع ويزيد، ويُبدي في اختراع الصّور ويُعيد، ويصادف مضطرباً كيف شاء واسعاً، ومَدَداً من المعاني متتابعاً، ويكون كالمغترف من عِدٍّ لا ينقطع، والمُسْتَخرج من مَعْدِنٍ لا ينتهي. وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المُدانَى قَيْدُه، والذي لا تتّسع كيف شاء يَدُه وأيْدُه، ثم هو في الأكثر يسرد على السامعين معانىَ معروفةً وصوراً مشهورة، ويتصرّف في أصول هي وإن كانت شريفةً، فإنها كالجواهر تُحفَظ أعدادها، ولا يُرْجَى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تَنْمي ولا تزيد، ولا تربح ولا تُفيد، وكالحسناء العقيم، والشجرة الرَّائقة لا تُمتِّع بجَنًى كريم. هذا ونحوه يمكن أن يُتَعلَّق به في نصرة التخييل وتفضيله، والعقل بعدُ على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقلُ ناصرَهُ، والتحقيقُ شاهدَه، فهو العزيز جانبه، المنيع مَنَاكبُه، وقد قيل الباطل مخصوم وإن قُضي له، والحقّ مُفْلجٌ وإن قُضي عليه، هذا ومَنْ سلَّم أنّ المعاني المُعرِقة في الصدق، المستخرَجة من مَعْدِن الحقّ، في حكم الجامد الذي لا يَنْمِي، والمحصور الذي لا يزيد؛ وإن أردت أن تعرف بُطْلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبي فراس: وكنَّا كالسهامِ إذَا أصابَتْ *** مَرَامِيَها فَرَامِيهَا أَصَابَ ألست تراه عقليّاً عريقاً في نسبه، معترَفاً بقوّة سببه، وهو على ذلك من فوائد أبي فراسٍ التي هي أبو عُذْرِها، والسابق ُإلى إثارة سِرّها، واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل، لأن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظةِ المستعارة، وإنما يعمد إلى إثبات شَبَهٍ هناك، فلا يكون مَخْبَرُهُ على خلاف خَبَره، وكيف يعرض الشكُّ في أَنْ لا مدخل للاستعارة في هذا الفنّ، وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفَى، كقوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْب} [مريم: 4، ثم لا شبهةَ في أنْ ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهراً، وإنما المراد إثبات شَبهه، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن مرآة المؤمن، ليس على إثباته مِرآةً من حيث الجسم الصَّقيل، لكن من حيث الشَّبه المعقول، وهو كونها سبباً للعلم بما لولاها لم يعْلَم، لأن ذلك العلم طريقُه الرؤية، ولا سبيل إلى أن يرى الإنسان وجهَه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصَّقيلة، فقد جمع بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة، وهي أن المؤمن ينصَح أخاه ويُريه الحسَن من القبيح، كما تري المرآةُ الناظرَ فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: إياكم وخَضْراءَ الدِّمَن، معلوم أن ليس القصدُ إثباتَ معنى ظاهر اللفظين، ولكن الشَّبهُ الحاصل من مجموعهما، وذلك ُحسن الظاهر مع خُبْثِ الأصل، وإذا كان هذا كذلك، بانَ منه أيضاً أنّ لك مع لُزوم الصدق، والثبوت على محض الحقّ، الميدانَ الفسيح والمجالَ الواسع، وأنْ ليس الأمر على ما ظنَّه ناصر الإغراق والتخييل الخارج إلى أن يكون الخَبَر على خلاف المَخْبَر، من أنه إنما يتّسع المقال ويَفْتَنّ، وتكثر موارد الصنعة ويغزُر يُنْبُوعها، وتكثر أغصانها وتتشعّب فروعها، إذا بُسِط من عنان الدعوى، فادُّعي ما لا يَِصحّ دعواه، وأثبت ما ينفيه العقل ويَأباه. وجملة الحديث أن الذي أريده بالتخييل ها هنا، ما يُثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابتٍ أصلاً، ويدَّعي دعوَى لا طريقَ إلى تحصيلها، ويقولُ قولاً يخدع فيه نفسه ويُريها ما لا ترى، فأمَّا الاستعارة فإن سبيلَها سبيلُ الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله، وجدتَ قائله وهو يُبت أمراً عقليّاً صحيحاً، ويدّعي دعوَى لها سِنْخٌ في العقل، وستمرُّ بك ضروبٌ من التخييل هي أظهرُ أمراً في البُعد عن الحقيقة، وأكشفُ وجهاً في أنه خداعٌ للعقل، وضربٌ من التزويق، فتزداد استبانة للغَرَض بهذا الفصل، وأَزيدُك حينئذ إن شاء اللَّه، كلاماً في الفرق بين ما يدخل في حيّز قولهم خير الشعر أكذبه، وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتِّساع وتجوّزٌ فاعرفه. وكيف دار الأمرُ فإنهم لم يقولوا خير الشعر أكذبه، وهم يريدون كلاماً غُفْلاً ساذجاً يكذب فيه صاحبُه ويُفْرِط، نحو أن يصف الحارسَ بأوصاف الخليفة،ويقول للبائس المسكين إنّك أمير العِرَاقَيْن، ولكن ما فيه صنعةٌ يتعمَّل لها، وتدقيقٌ في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفةٍ وفهمٍ ثاقبٍ وغوصٍ شديد، واللَّه الموافق للصواب، وأعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي. واعلم أن ما شأنه التخييل، أمْرُه في عِظَم شجرته إذا تُؤُمِّلَ نَسَبُه، وعُرفت شُعُوبه وشُعَبُه، على ما أشرت إليه قُبَيلُ، لا يكاد تجيء فيه ِقِسْمةٌ تستوعبه، وتفصيل يَستغرقه، وإنما الطريق فيه أن يُتَّبَعَ الشيء بعد الشيءِ ويُجمع ما يحصُره الاستقراء، فالذي بدأتُ به من دعوى أصلٍ وعلّةٍ في حُكمٍ من الأحكام، هما كذلك ما تُرِكَتْ المضايقة، وأُخذ بالمسامحة، ونُظر إلى الظاهر، ولم يُنقَّر عن السرائر، وهو النَمَطُ العَدْل والنُمْرُقة الوُسطَى، وهو شيءٌ تراه كثيراً بالآداب والحِكم البريئة من الكذب، ومن الأمثلة فيه قول أبي تمام: إنّ رَيْبَ الزمـان يُحْـسِـنُ أن يُه *** دِي الرَّزَايا إلى ذَوي الأحـسـابِ فَلِهذَا يَجـفُّ بَـعْـدَ اخـضـرارٍ *** قَبْلَ رَوْضِ الوِهادِ رَوْضُ الرَّوَابي وكذا قولُه يذكر أنّ الممدوح قد زاده، مَع بُعده عنه وغيبتِه، في العطايا على الحاضرين عنده اللاَّزمين خِدْمَته: لَزِمُوا مَرْكَزَ الـنَّـدَى وذَراهُ *** وعَدَتْنا عَنْ مثْل ذاك العَوَادي غيرَ أنَّ الرُّبَى إلى سَبَل الأنو *** اءِ أدنَى والحظُّ حَظُّ الوِهَادِ لم يقصِد من الربى هاهنا إلى العلوّ، ولكن إلى الدنوّ فقط، وكذلك لم يُردْ بذكر الوهاد الضَّعةَ والتَّسفُّل والهُبوط، كما أشار إليه في قوله والسَّيْلُ حَربٌ للمكان العالي وإنما أراد أن الوهاد ليس لها قُرْبُ الرُّبَى من فيض الأنواء، ثم إنها تتجاوزُ الرُّبَى التي هي دانية قريبة إليها، إلى الوهاد التي ليس لها ذلك القُرْب. ومن هذا النَّمط، في أنه تخييل شبيةٌ بالحقيقة لاعتدال أمره، وأنّ ما تعلَّق به من العِلَّة موجود على ظاهرِ مَا ادَّعى، قولُه: لَيْسَ الحجابُ بمُقْصِ عنك لي أمَلاً *** إنَّ السماءَ تُرَجَّى حِين تَحْتَجِـبُ فاستتارُ السماء بالغيم هو سبب رجاءِ الغَيْث الذي يُعَدُّ في مجرى العادة جُوداً منها ونعْمةً، صادرةً عنها، كما قال ابن المعتز: ما تَرَى نعْمةَ السماءِ على الأَرْ *** ضِ وشُكْرَ الرِّياضِ للأمْطارِ وهذا نوعٌ آخرُ، وهو دعواهم في الوصف هو خِلقةٌ في الشيء وطبيعةٌ، وواجبٌ على الجملة، من حيث هو أنّ ذلك الوصف حصل له من الممدوح ومنه استفادَهُ،، وأصل هذا التشبيهُ، ثم يتزايد فيبلُغ هذا الحدَّ، ولهم فيه عباراتٌ منها قولهم إن الشمس تستعير منه النور وتستفيد، وتتعلّم منه الإشراق وتكتسب منه الإضاءة، وألطفُ ذلك أن قال: تسْرقُ، وأن نورها مسروق من الممدوح، وكذلك يقال المِسْكُ يَسْرِق منْ عَرْفِه، وأنّ طيبه مُسْتَرَقٌ منه ومن أخلاقه، قال ابن بابك: ألا يا رياضَ الحَزْن من أَبرق الحِمَى *** نَسِيمُك مسروقٌ ووَصفُك مُنْتَـحَـلْ حكيتِ أبا سَعْدٍ فنَـشْـرُكِ نَـشْـرُهُ *** ولكنْ له صِدْقُ الهَوَى ولكِ المَلَـلْ ونوع آخر، وهو أن يدَّعيَ في الصفة الثانية للشيء أنه إنما كان لِعلَّةٍ يضعها الشاعر ويختلقُها، إمّا لأمرٍ يرجع إلى تعظيم الممدوح، وتعظيم أمرٍ من الأمور، فمن الغريب في ذلك معنى بيت فارسيٍّ ترجَمَتُهُ: لَوْ لَم تكن نِيَّةُ الجوزاءِ خِدْمتَهُ *** لَمَا رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتطقِ فهذا ليس من جنس ما مضى، أعني ما أصله التشبيه، ثم أريد التناهي في المبالغة والإغراق والإغراب. ويدخل في هذا الفن قول المتنبي: لم يَحْكِ نائلَكَ السَّحابُ وإَّنما *** حُمَّتْ به فصبيبُها الرَُّحَضاءُ لأنه وإن كان أصله التشبيه، من حيث يشبّه الجَوَاد بالغَيْث، فإنه وَضَعَ المعنى وضعاً وصوَّره في صورةٍ خرج معها إلى ما لا أصل له في التشبيه، فهو كالواقع بين الضَرْبَين، وقريبٌ منه في أن أصله التشبيه ثم باعده بالصنعة في تشبيهه وخلع عنه صورته خلعاً، قولُهُ: ومَا رِيحُ الرِّياض لَها ولكـن *** كَسَاها دَفْنُهُمْ في التُرْبِ طيبَا ومن لطيف هذا النوع قولُ أبي العباس الضبّي: لا تركننَّ إلـى الـفـرا *** قِ وإن سَكَنْتَ إلى العِنَاقِ فالشمسُ عِنْدَ غروبـهـا *** تصفَرُّ من فَرَقِ الفِراقِ ادَّعَى لتعظيم شأن الفراق أنّ ما يُرَى من الصُفرة في الشمس حين يرِقُّ نورها بدنّوها من الأرض، إنما هو لأنها تُفارق الأُفٌق الذي كانت فيه، والناسَ الذين طلعت عليهم وأنِسَتْ بهم وأنِسوا بها وسَرَّتْهم رُؤْيتُها، ونوع منه قولُ الآخر: قضيبُ الكَرْمِ نَقْطَعه فَيَبْكِي *** ولا تَبْكي وقد قَطَع الحبيبُ وهو منسوب إلى إنشاد الشّبلي، ويقال أيضاً أن أبا العباس أخذ معناه في بيته من قول بعض الصُّوفية وقيل له: لِمَ تصفرُّ الشمس عند الغروب؛ فقال من حَذَر الفراق، ومن لطيف هذا الجنس قول الصُّولي: الرِّيح تَحْسُدُني عـلـي *** كِ ولم أخَلْهَا في العِدَ لَمَّا هَمَمْـتُ بـقُـبْـلةٍ *** رَدَت على الوَجْهِ الرِّدَا وذلك أن الريح إذا كان وجهها نحو الوَجْه، فواجب في طِباعها أن تردّ الرداء عليه، وأن تلُفّ من طرفيه، وقد ادّعى أن ذلك منها لحسدٍ بها وغَيْرَةٍ على المحبوبة، وهي من أجل ما في نفسها تَحُول بينه وبين أن ينال من وجهها. وفي هذه الطريقة قوله: وحَارَبَني فيه رَيْبُ الزَّمانِ *** كأنَّ الزَّمانَ لهُ عاشـقُ إلاَّ أنه لم يضع عِلّة ومعلولاً من طريق النصّ على شيء، بل أثبت محاربةً من الزمان في معنى الحبيب، ثم جعل دليلاً على عِلَّتها جوازَ أن يكون شريكاً له في عشقه، وإذا حقَّقْنا لم يجب لأجل أن جَعَلَ العِشقِ عِلَّة للمحاربة، وجَمَع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوةِ لَهُما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل. وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علّةً غيرَ معقولٍ كونُها علّةً لذلك الأمر، وكونُ العشق علّةً للمعاداة في المحبوب معقولٌ معروف غير بِدْعٍ ولا مُنكَر، فإذا بدأ فادّعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه، فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردَّت الريح الرِّداء، فقد وَجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد ولغيرها، لأن ردَّ الرداء شأنُها، فاعرفه، فإن مِنْ شَأن حكم المُحصِّل أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظُرها إلى جُمَل الأمور، وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّقَ النظر في ذلك، ويراعَى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل، فأنت في نحو بيت ابن وُهيب تدّعى صفةً غير ثابتة، وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العِلّة التي ذكرها، وفي نحو بيت الريح، تذكر صفةً غير ثابتة حاصلةً على الحقيقة، ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعاً واختراعاً، فافهمه، وهكذا قول المتنبي: مَلامِي النَّوَى في ظُلْمها غايةُ الظُّلْمِ *** لعلَّ بها مِثْلَ الَّذِي بِي مِن السُّقـمِ فَلَوْ لم تَغَرْ لم تَزْوِ عَنِّي لِقـاءَكُـم *** ولو لم تُرِدْكُمْ لم تكنْ فِيكُمُ خَصْمِي الدعوى في إثبات الخصومة، وجَعْلِ النَّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديثُ الغَيرةِ والمشاركةِ في هوى الحبيب، يثبُتُ بثبوت ذلك من غير أن يفتقر مِنك إلى وَضْعٍ واختراع. ومما يلحق بالفنّ الذي بدأتُ به قولُه: بِنَفسِيَ ما يشكوهُ مَن راح طَرْفُهُ *** ونَرْجِسُهُ مِمّا دَهَى حُسنَه وَردُ أراقَتّْ دَمِي عَمْداً مَحاسنُ وجهه *** فأضْحَى وفي عَيْنَيه آثارُه تَبْدُو لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يَعْرِض لها من حيث هي عينٌ بعلّةٍ يعلم أنها مخترعَة موضوعة، فليس ثمَّ إراقة دم، وأصْل هذا قول ابن المعتز: قَالُوا اشتكتْ عَيْنُه فقُلْتُ لَهُـم *** مِن كَثْرةِ القَتْل نَالَها الوَصَبُ حُمْرتُها مِن دِماءِ مَن قتلَـتْ *** والدَّمُ في النَّصْل شاهدٌ عَجَبُ وبين هذا الجنس وبين نحو الرّيح تحسدني، فرقٌ، وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح، وهو ردُّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك، وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ، وأما هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ، والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه. وممّا يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط، من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما تراه من تأوُّلهم في الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض، ولكنها فِطَنٌ ثاقبة وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات، كقوله: وحُوشِيتَ أن تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ *** ألاَ إنَّها تلك العُزُوم الثَّـواقـبُ وقال ابن بابك: فترتَ وما وجدتَ أبا العلاءِ *** سِوَى فَرْط التوقُّد والذَّكاءِ ولكشاجم، يقوله في علي بن سليمان الأخفش: ولقد أخطـأَ قـومٌ زعـمـوا *** أنها من فَضْل بَرْدٍ في العَصَبْ هُو ذَاكَ الذِّهـن أذكـى نَـارَه *** وَالمِزَاجُ المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ ولا يكون قول المتنبي: وَمَنازلُ الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا *** مَا عُذْرُها في تَرْكها خَيراتِه أعجبتَها شَرَفاً فَطَال وُقُوفُهـا *** لتأَمُّلِ الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِـه من هذا في شيء، بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحُمَّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس، فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه? فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله: أيَدْري مَـا أَرابَـك مَـن يُريبُ *** وَهلْ تَرْقَى إلى الفَلك الخطوبُ وجسمُك فَوْق هِـمَّةِ كُـلِّ داءٍ *** فقُرْبُ أقلِّها مـنـه عـجـيبُ إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ: صدَّت شُرَيْرُ وأزمعت هَجْرِي *** وَصَغَت ضَمائرُها إلى الغَدْرِ قالت كَبِرتَ وشِبتَ قلتُ لهـا *** هذا غُبارُ وَقَـائعِ الـدَّهْـرِ ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: وبياضُ البازيّ. وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة، ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان وَجْهه وظهر، كقول الطائي الكبير: ولا يُرَوِّعْك إيماضُ القَتِير به *** فَإنَّ ذاك ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ وينبغي أن تعلمَ أنّ باب التشبيهات قد حظِي من هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته، ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف، فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ لمعروفَ في طِباع الغَزِل، ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد الوَحشة، وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل لِسَانه في الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر، فمن ذلك قول ابن الرومي: خجِلتْ خدودُ الورد من تفضيله *** خَجَلاً تورُّدُها علـيه شـاهـدُ لم يَخْجَلِ الوردُ المورَّدُ لـونُـه *** إلاَّ وناحِلهُ الفضـيلةَ عـانـدُ للنرجس الفضلُ المُبينُ وإن أبَى *** آبٍ وحادَ عن الطـريقة حـائدُ فصْلُ القضـية أنّ هـذا قـائدٌ *** زَهَرَ الرياضِ وأَنّ هذا طاردُ شتَّانَ بين اثنين هـذا مُـوعِـدُ *** بتَسلُّبِ الـدُّنـيا وهَـذَا واعـدُ يَنْهَى النديمَ عن القبيح بلحظِـه *** وَعَلَى المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ اطلبْ بِعَفْوك في الملاح سَمِيَّه *** أبداً فإنك لا مَـحَـالة واجـدُ والوَرْدُ إن فكّرتَ فردٌ في اسمه *** ما في الملاح له سمِيُّ واحـدُ هذي النجومُ هي التي رَبَّتْهُمـا *** بِحَيا السحابِ كما يُربِّي الوالـدُ فانظر إلى الأخَوَين مَن أدناهما *** شَبَهاً بوالده فذاك الـمـاجـدُ أين الخدودُ من العيون نَـفَـاسةً *** ورِئاسةً لولا القياسُ الفـاسـدُ وحَارَبَني فيه رَيْبُ الزَّمانِ *** كأنَّ الزَّمانَ لهُ عاشـقُ إلاَّ أنه لم يضع عِلّة ومعلولاً من طريق النصّ على شيء، بل أثبت محاربةً من الزمان في معنى الحبيب، ثم جعل دليلاً على عِلَّتها جوازَ أن يكون شريكاً له في عشقه، وإذا حقَّقْنا لم يجب لأجل أن جَعَلَ العِشقِ عِلَّة للمحاربة، وجَمَع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوةِ لَهُما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل. وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علّةً غيرَ معقولٍ كونُها علّةً لذلك الأمر، وكونُ العشق علّةً للمعاداة في المحبوب معقولٌ معروف غير بِدْعٍ ولا مُنكَر، فإذا بدأ فادّعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه، فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردَّت الريح الرِّداء، فقد وَجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد ولغيرها، لأن ردَّ الرداء شأنُها، فاعرفه، فإن مِنْ شَأن حكم المُحصِّل أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظُرها إلى جُمَل الأمور، وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّقَ النظر في ذلك، ويراعَى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل، فأنت في نحو بيت ابن وُهيب تدّعى صفةً غير ثابتة، وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العِلّة التي ذكرها، وفي نحو بيت الريح، تذكر صفةً غير ثابتة حاصلةً على الحقيقة، ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعاً واختراعاً، فافهمه، وهكذا قول المتنبي: مَلامِي النَّوَى في ظُلْمها غايةُ الظُّلْمِ *** لعلَّ بها مِثْلَ الَّذِي بِي مِن السُّقـمِ فَلَوْ لم تَغَرْ لم تَزْوِ عَنِّي لِقـاءَكُـم *** ولو لم تُرِدْكُمْ لم تكنْ فِيكُمُ خَصْمِي الدعوى في إثبات الخصومة، وجَعْلِ النَّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديثُ الغَيرةِ والمشاركةِ في هوى الحبيب، يثبُتُ بثبوت ذلك من غير أن يفتقر مِنك إلى وَضْعٍ واختراع. ومما يلحق بالفنّ الذي بدأتُ به قولُه: بِنَفسِيَ ما يشكوهُ مَن راح طَرْفُهُ *** ونَرْجِسُهُ مِمّا دَهَى حُسنَه وَردُ أراقَتّْ دَمِي عَمْداً مَحاسنُ وجهه *** فأضْحَى وفي عَيْنَيه آثارُه تَبْدُو لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يَعْرِض لها من حيث هي عينٌ بعلّةٍ يعلم أنها مخترعَة موضوعة، فليس ثمَّ إراقة دم، وأصْل هذا قول ابن المعتز: قَالُوا اشتكتْ عَيْنُه فقُلْتُ لَهُـم *** مِن كَثْرةِ القَتْل نَالَها الوَصَبُ حُمْرتُها مِن دِماءِ مَن قتلَـتْ *** والدَّمُ في النَّصْل شاهدٌ عَجَبُ وبين هذا الجنس وبين نحو الرّيح تحسدني، فرقٌ، وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح، وهو ردُّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك، وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ، وأما هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ، والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه. وممّا يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط، من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما تراه من تأوُّلهم في الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض، ولكنها فِطَنٌ ثاقبة وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات، كقوله: وحُوشِيتَ أن تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ *** ألاَ إنَّها تلك العُزُوم الثَّـواقـبُ وقال ابن بابك: فترتَ وما وجدتَ أبا العلاءِ *** سِوَى فَرْط التوقُّد والذَّكاءِ ولكشاجم، يقوله في علي بن سليمان الأخفش: ولقد أخطـأَ قـومٌ زعـمـوا *** أنها من فَضْل بَرْدٍ في العَصَبْ هُو ذَاكَ الذِّهـن أذكـى نَـارَه *** وَالمِزَاجُ المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ ولا يكون قول المتنبي: وَمَنازلُ الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا *** مَا عُذْرُها في تَرْكها خَيراتِه أعجبتَها شَرَفاً فَطَال وُقُوفُهـا *** لتأَمُّلِ الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِـه من هذا في شيء، بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحُمَّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس، فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه? فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله: أيَدْري مَـا أَرابَـك مَـن يُريبُ *** وَهلْ تَرْقَى إلى الفَلك الخطوبُ وجسمُك فَوْق هِـمَّةِ كُـلِّ داءٍ *** فقُرْبُ أقلِّها مـنـه عـجـيبُ إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ: صدَّت شُرَيْرُ وأزمعت هَجْرِي *** وَصَغَت ضَمائرُها إلى الغَدْرِ قالت كَبِرتَ وشِبتَ قلتُ لهـا *** هذا غُبارُ وَقَـائعِ الـدَّهْـرِ ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: وبياضُ البازيّ. وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة، ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان وَجْهه وظهر، كقول الطائي الكبير: ولا يُرَوِّعْك إيماضُ القَتِير به *** فَإنَّ ذاك ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ وينبغي أن تعلمَ أنّ باب التشبيهات قد حظِي من هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته، ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف، فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ لمعروفَ في طِباع الغَزِل، ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد الوَحشة، وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل لِسَانه في الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر، فمن ذلك قول ابن الرومي: خجِلتْ خدودُ الورد من تفضيله *** خَجَلاً تورُّدُها علـيه شـاهـدُ لم يَخْجَلِ الوردُ المورَّدُ لـونُـه *** إلاَّ وناحِلهُ الفضـيلةَ عـانـدُ للنرجس الفضلُ المُبينُ وإن أبَى *** آبٍ وحادَ عن الطـريقة حـائدُ فصْلُ القضـية أنّ هـذا قـائدٌ *** زَهَرَ الرياضِ وأَنّ هذا طاردُ شتَّانَ بين اثنين هـذا مُـوعِـدُ *** بتَسلُّبِ الـدُّنـيا وهَـذَا واعـدُ يَنْهَى النديمَ عن القبيح بلحظِـه *** وَعَلَى المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ اطلبْ بِعَفْوك في الملاح سَمِيَّه *** أبداً فإنك لا مَـحَـالة واجـدُ والوَرْدُ إن فكّرتَ فردٌ في اسمه *** ما في الملاح له سمِيُّ واحـدُ هذي النجومُ هي التي رَبَّتْهُمـا *** بِحَيا السحابِ كما يُربِّي الوالـدُ فانظر إلى الأخَوَين مَن أدناهما *** شَبَهاً بوالده فذاك الـمـاجـدُ أين الخدودُ من العيون نَـفَـاسةً *** ورِئاسةً لولا القياسُ الفـاسـدُ وترتيب الصنعة في هذه القطعة، أنه عمل أوَّلاً على قلب طرفَي التشبيه، كما مضى في فصل التشبيهات، فشبّه حُمرةَ الورد بحمرة الخجل، ثم تناسَى ذلك وخَدعَ عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خَجَلٌ على الحقيقة، ثم لما اطمأنَّ ذلك في قلبه واستحكمت صورته، طَلَبَ لذلك الخجل عِلّةً، فجعل عِلَّته أنْ فُضِّل على النرجس، ووُضِع في منزلةٍ ليس يرى نفسَهُ أهْلاً لها، فصار يتَشوَّر من ذلك، ويتخوّف عيبَ العائب، وغميزةَ المستهزئ، ويجدُ ما يجد مَنْ مُدِح مِدْحةً يَظْهر الكذب فيها ويُفْرِط، حتى تصير كالهُزء بمن قُصِد بها، ثم زادته الفِطْنة الثاقبةُوالطبع المُثْمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع حِجاج في شأن النرجس، وجهةِ استحقاقه الفضلَ على الورد، فجاء بحُسنٍ وإحسانٍ لا تكاد تجد مثله إلاّ له. ومما هو خليقٌ أن يوضع في منزلة هذه القطع، ويلحق بها في لطف الصنعة، قول أبي هِلالٍ العسكري: زَعَم البَنَفْسَجُ أنَّـه كـعِـذَارهِ *** حُسْناً فسَلُّوا مِن قَفَاه لسـانَـهُ لَم يَظْلِمُوا في الحكم إذْ مَثَلوا به *** فلشَدَّمَا رفع البَنَفْسَجُ شَـانَـهُ وقد اتفق للمتأخرين من المحْدَثين في هذا الفن نُكَتٌ ولطائف، وبِدَعٌ وظرائف، لا يُستكثر لها الكثير من الثّناء، ولا يضيق مكانُها من الفَضْل عن سَعَة الإطراء، فمن ذلك قول ابن نباتة في صفة الفرس: وأدهمُ يستمدُّ الـلـيلُ مـنـه *** وتَطلُع بين عَينَـيه الـثُّـريَّ سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يطير مَشْياً *** ويَطْوِي خَلْفَه الأفـلاكَ طَـيّاً فلَمّا خاف وَشْكَ الفَوْتِ مـنـه *** تَشَبَّثَ بالقـوائم والـمُـحَـيَّ وأحسن من هذا وأحكم صنعةً قولُه في قطعة أخرى: فكأنما لَطَمَ الصباحُ جـبـينَـهُ *** فاقتصَّ منه وخَاضَ في أَحشائهِ وأول القطعة: د جَاءَنا الطِّرْفُ الذي أهْـدَيْتَـهُ *** هَادِيه يَعْقِد أرضَه بـسـمـائهِ وِلايةً وَلَّيتَـنـا فـبَـعَـثْـتَـهُ *** رُمحاً سَبيبُ العُرفِ عَقْدُ لِوائِه ختال منه على أَغَرَّ محـجَّـلٍ *** ماءُ الدَّياجي قطرةٌ مـن مـائهِ كأنما لَطَمَ الصَّبـاحُ جـبـينَـهُ *** فاقتصَّ منه وخَاضَ في أحشائِه تمهِّلاً والبرقُ مـن أسـمـائه *** مُتبرقعاً والحُسْنُ من أكـفـائِه مَا كانت النِّيران يَكْمُنُ حَـرُّهـا *** لَوْ كان للنِّيران بعـضُ ذَكـائِه لا تَعْلَقُ الألحاظُ في أَعطـافِـه *** إلاَّ إذا كفكفتَ مـن غُـلَـوائهِ لاَ يُكمِلُ الطرْفُ المحاسنَ كُلَّها *** حَتَّى يكونَ الطَّرْفُ من أُسَرائِه ومما له في التفضيلِ الفَضْلُ الظاهرُ لحسن الإبداع، مع السلامة من التكلُّف، قوله: وماءٍ عَلى الرَّضْرَاض يَجْري كأنَّهُ *** صحائفُ تِبْرٍ قد سُبِكْـنَ جـداولاَ كأنّ بها من شدة الـجَـرْيِ جِـنَّةً *** وقَدْ ألبستهُنَّ الـرِّياحُ سَـلاَسـلاَ وإنما ساعده التوفيقُ، من حيث وُطّئ له من قبلُ الطريقُ، فسبق العُرْفُ بتشبيه الحُبُك على صفحات الغُدْران بحلَق الدروع، فتدرَّج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل، كما فعل ابن المعتزّ في قوله: وأنهارِ ماءٍ كالسلاسل فُجـرّت *** لتُرضِع أولادَ الرياحين والزَهْرِ ثم أتمّ الحِذْق بأن جعل للماء صفة تَقْتَضي أن يُسَلْسَل، وقَرُبَ مأخذُ ما حاول عليه، فإن شدة الحركة وفرط سرعتها من صفات الجنون، كما أن التمهُّل فيها والتأنّي من أوصاف العقل، ومن هذا الجنس قولُ ابن المعتزّ في السيف، في أبيات قالها في الموفَّق، وهي: وفَارسٍ أَغْمَدَ فـي جُـنّةٍ *** تُقطّع السيفَ إذا ما وَرَدْ كأنها ماءٌ علـيه جَـرَى *** حتى إذا ما غاب فِيهِ جَمَدْ في كفّهِ عَضْبٌ إذا هـزَّهُ *** حسِبتَهُ من خَوْفِه يَرْتَعِـد فقد أراد أن يخترع لهزّةِ السيف عِلّةً، فجعلها رِعْدَة تناله من خوف الممدوح وهَيْبَته، ويُشبه أن يكون ابن بابك نظر إلى هذا البيت وعلَّق منه الرعدة في قوله: فإن عَجَمَتْني نيُوبُ الخطـوبِ *** وأَوْهَى الزمانُ قُوَى مُنَّتِـي فَمَا اضطرب السيفُ من خِيفةٍ *** ولا أُرعِدَ الرمحُ مـن قِـرَّةِ إلا أنه ذهب بها في أسلوب آخر، وقصد إلى أن يقول إنّ كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد، لا يوجبُ أن يكون ذلك من آفة وعارض، وكأنه عكس القضيّة فأبَى أن تكون صفة المرتعد في الرمح للعلل التي لمثلها تكون في الحيوان. وأمَّا ابن المعتزّ فحقّق كونها في السيف على حقيقة العلّةِ التي لها تكون في الحيوان فاعرفه. وقد أعاد هذا الارتعادَ على الجملة التي وصفتُ لك، فقال: قالُوا طواهُ حُزنُهُ فـانـحـنَـى *** فقلتُ والشـكُّ عـدُوُّ الـيقـين ما هَيَفُ النَّرجِس مـن صَـبْـوَةٍ *** ولا الضَنَى في صُفرة الياسمينْ ولا ارتعادُ السَّـيفِ مـن قِـرَّةٍ *** ولا انعطافُ الرمح من فَرْطِ لينْ ومما حقُّه أن يكون طرازاً في هذا النوع قولُ البحتري: يَتَعثَّرْنَ في النُّحور وفي الأَوْ *** جُهِ سُكْراً لمَّا شَربْنَ الدمَّاءَ جعل فِعلَ الطاعنِ بالرماح تعثُّراً منها، كما جعل ابن المعتزّ تحريكه للسيف وهزَّه له ارتعاداً، ثم طلب للتعثُّر عِلَّة، كما طلب هو للارتعاد فاعرفه. ومن هذا الباب قول عُلبة: وكأن السَّماءَ صَاهَرَت الأَرْ *** ضَ فصَار النِّثارُ من كافورِ وقول أبي تمام: كأنّ السحاب الغُرّ غَيَّبن تَحْتَها *** حَبِيباً فما تَرْقَا لهنّ مَدَامِـعُ وقول السريّ يصف الهلال: جاءَك شَهْرُ السُّرُورِ شوّالُ *** وغال شَهْر الصِّيامِ مغتالُ ثم قال: كأنـه قَـيْدُ فِـضّةٍ حَـرِجٌ *** فُضَّ عن الصائمين فاخْتالوا كل واحد من هؤلاء قد خدع نفسه عن التشبيه وغالطها، وأَوْهَمَ أن الذي جرى العُرْف بأن يؤخذ منه الشَّبه قد حضر وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى حُصوله حتى نصب له عِلَّة، وأقام عليه شاهداً، فأثبت عُلبة زفافاً بين السماء والأرض، وجعل أبو تمام للسحاب حبيباً قد غُيّب في التراب، وادَّعى السريُّ أن الصائمين كانوا في قَيْدٍ، وأنه كان حَرِجاً، فلما فَضَّ عنهم انكسر بنصفين، واتسع فصار على شكل الهلال، والفرق بين بيت السريّ وبيتي الطائييَّن، أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامّيٌّ جارٍ على الألْسُن، وجعلُ القَطْرِ الذي ينزل من السحاب دموعاً، ووَصْفُ السحابِ والسماءِ بأنها تبكي، كذلك، فأمّا تشبيه الهلال بالقَيْدِ فغير معتاد نفسه إلاّ أنَّ نظيرَه معتاد، ومعناه من حيث الصورة موجود، وأعني بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال بالسِّوار المنفصم، كما قال: حاكياً نِصفَ سِوارٍ *** مِنْ نُضارٍ يتوقَّـدْ وكما قال السري نفسه: ولاح لنا الهلال كشطر طَوْقٍ *** على لَبَّاتِ زَرقاءِ اللـبـاسِ إلا أنه سَاذَجٌ لا تعليل فيه يجب من أجله أن يَكُون سِوَار وطَوْقاً، فاعرفه، ورَأيت بعضهم ذكر بَيْت السريّ الذي هو: كَأنَّه قَيْد فِضَّة حَرَجٌ مع أبيات شعر جمعه إليها، أنشدَ قطعةَ ابن الحجاج: يا صَاحِبَ البَيْتِ الَّـذِي *** قد مَاتَ ضَيْفاه جمِيعَ مَالِي أَرى فَلَكَ الرَّغي *** فِ لدَيك مُشْتَرِفاً رَفِيعَا كالبدرِ لا نرجـو إلـى *** وَقْت المَسَاءِ له طُلوعَا ثم قال إنّه شبَّه الرغيف بالبدر، لعِلَّتين إحداهما الاستدارة، والثانيةُ طلوعه مَساءً، قال وخيرُ التشبيه ما جمع مَعْنيين، كقول ابن الرمي: يا شبيه البدْر في الحُس *** نِ وفي بُعد المَـنَـالِ جُدْ فقد تنفجِرُ الـصَّ *** خرةُ بالمـاءِ الـزُّلالِ وأنشد أيضاً لإبراهيم بن المهدي: ورحمتَ أطفالاً كأفْراخ القَطَا *** وحنينَ وَالِهةٍ كقَوْسِ النَّـازِعِ ثم قال ومثله قولُ السَّري: كأنه قَيْدُ فِضَّةٍ حَرَجٌ وهو لا يشبه ما ذكره، إلا أنْ يَذهبَ إلى حديثِ أنه أفاد شكلَ الهلال بالقيد المفضوض، ولونَه بالفضة، فأمَّا إن قصد النكتة التي هي موضع الإغراب، فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد، لأن شيئاً من تلك الأبيات لا يتضمَّنُ تعليلاً، وليس فيها أكثر من ضمّ شَبَهٍ إلى شبه، كالحنين والانحناء من القوس، والاستدارة والطلوع مساءً من البَدْر، وليس أحد المعنيين بِعِلّة للآخر، كيف? ولا حاجة بواحد من الشبهين المذكورين إلى تصحيحِ غيره له. ومما هو نظيرٌ لبيت السريّ وعلى طريقة قول ابن المعتزّ: سَقَاني وقد سُلَّ سَيفُ الصبـا *** حِ والليلُ من خَوْفه قَدْ هَرَبْ لم يقنع هاهنا بالتشبيه الظَّاهر والقولِ المرسَل، كما اقتصر في قوله: حتى بدا الصباحُ من نقابِ *** كما بدا المُنْصلُ من قِرابِ وقوله: أمّا الظلامُ فحِينَ رَقَّ قَـمِـيصُـهُ *** وأَتى بياضُ الصُّبْح كالسَّيف الصَّدي ولكنه أحبّ أن يحقّق دعواه أنّ هناك سيفاً مسلولاً، ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن هاهنا تشبيهاً، وأنّ القصد إلى لونِ البياضِ في الشكل المستطيل، فتوصَّلَ إلى ذلك بأَن جعل الظَّلام كالعدوّ المنهزم الذي سُلّ السَّيف في قَفَاه، فهو يهرب مخافَة أن يُضْرب به، ومثل هذا في أن جعل الليلَ يخافُ الصبحَ، لا في الصنعة التي أنا في سياقها، قولُه: سَبقنا إليهَا الصُّبْحَ وهو مُقـنَّـعٌ *** كَمِينٌ وقلبُ اللَّيلِ منه على حَذَرْ وقد أخذ الخالديُّ بيته الأوّل أخْذاً، فقال: والصُّبحُ قد جُرِّدت صَوارِمُه *** والليلُ قد همَّ منه بالهَـربِ وهذه قطعة لابن المعتزّ، بيتٌ منها هو المقصود: وانظُر إلى دُنْيَا ربِيعٍ أقـبـلـتْ *** مِثْلَ البَغيِّ تبـرَّجـتْ لـزُنـاةِ جاءَتـك زائرةٌ كـعـــامٍ أوّلٍ *** وتَلبَّستْ وتعطَّـرَتْ بـنـبـاتِ وَإذا تَعرَّى الصُبحُ من كـافـورِهِ *** نَطَقتْ صُنوفُ طُيورِها بِلُغـاتِ والوَرْدُ يضحكُ من نَواظر نَرْجسٍ *** قَذِيَت وآذنَ حَيُّهـا بـمَـمَـاتِ هذا البيت الأخير هو المراد، وذلك أن الضَحِك في الوَرْد وكلِّ ريحان ونُوْرٍ يَتَفَتَّح، مشهور معروف، وقد علَّله في هذا البيت، وجعل الوَرْد كأنه يعقل ويميّز، فهو يَشْمَت بالنرجس لانقضاء مُدّته وإدبار دَوْلته، وبُدُوِّ أمارات الفناء فيه، وأعاد هذا الضحك من الورد فقال: ضَحِكَ الوَرْدُ في قَفَا المَنْثُورِ *** واسْتَرحْنَا من رِعْدَةِ المَقرُورِ أراد إقبال الصيف وحَرّ الهواء، ألا تراه قال بعده: وَاستَطَبْنا المَقِيلَ في بَرْد ظِلّ *** وَشَمِمْنَا الرَّيحانَ بالكـافـورِ فالرحيلَ الرحيلَ يا عَسْكرَ الل *** ذّاتِ عن كُلِّ رَوْضةٍ وغَدِيرِ فهذا من شأنِ الورد الذي عابَه به ابن الرومي في قوله: فصل القضية أن هـذا قـائد *** زَهَرَ الرياضِ وأن هذا طاردُ وقد جعله ابن المعتز لهذا الطَّرْدِ ضاحكاً ضحكَ مَن استولى وظفر وابتَزَّ غيرَه على وِلاية الزَّمان واستبدَّ بها، ومما يشوب الضحِكَ فيه شيءٌ من التَّعليل قوله أيضاً: مَات الهَوى مِنّي وضاع شَبَابـي *** وقَضَيْتُ من لَـذَّاتـه آرَابـي وإذا أردتُ تَصَابياً في مجلـسٍ *** فالشَّيْبُ يضحَك بِي مَع الأَحبابِ لا شكّ أن لهذا الضحك زيادةَ معنًى ليست للضحك في نحو قول دعبل: ضَحِكَ المَشِيبُ بِرَأْسِه فبَكَى وما تلك الزيادة إلا أنه جعل المشيبَ يضحك ضَحِكَ المتعجِّبِ من تعاطي الرجل ما لا يليق به، وتكلُّفه الشيءَ ليس هو من أهله، وفي ذلك ما ذكرتُ من إخفاءِ صُورة التشبيه، وأَخْذِ النفس بتناسيه، وهكذا قوله: لَمَّا رأونا في خَمِـيسٍ يلـتـهـبْ *** في شَارِقٍ يَضْحَك مِنْ غَيرِ عجبْ كَأنَّهُ صَبَّ علـى الأرض ذَهـبْ *** وقد بَدَت أسيافُنا مـن الـقُـرُبْ حَتىَّ تكونَ لِمـنـاياهُـمْ سَـبَـبْ *** نرفُلُ في الحَدِيد والأرضُ تجِـبْ
وحَنَّ شَريانٌ ونَبْعٌ فاصطَخبْ *** تَتَرَّسُوا مِنَ القتالِ بالهَـرَبْ المقصودُ قولُه يضحك من غير عَجَبْ، وذاك أنّ نفيه العلّة إشارةٌ إلى أنه من جنس ما يُعلَّل، وأنّه ضَحِكٌ قَطْعاً وحقيقةً، ألا ترى أنّك لو رحبتَ إلى صريح التشبيه فقلت هيئتُه في تلألؤه كهيئة الضاحك، ثم قلت من غير عجب، قلت قولاً غير مَقْبُولٍ، واعلم أنك إن عددتَ قولَ بعض العرب: ونَثْرَةٍ تهزأُ بالنِّصـالِ *** كأنّها من خِلَع الهلالِ الهِلال الحيّة هاهنا، واللام للجنس في هذا القبيل، لم يكن لك ذلك.
|